من اللافت أن في ثورة 2011، رُفعت صور الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي بكثافة، مما يكشف حجم الأثر الذي تركه الرئيس الذي حكم اليمن لفترة قصيرة، لا تتجاوز الثلاث سنوات كثيراً.
كان رفع صور الرئيس الراحل بمثابة تحدٍ للسلطة آنذاك ممثلة بالرئيس صالح لقناعة سادت أنه امتداد لمشروع قتلة الحمدي، الذي اكتسب ملامح أسطورية، بعضها شائع رغم أنها محض كذب، مثل أن اليمن أقرضت البنك الدولي، في حين أن البنك الدولي كمؤسسة لا يقترض أصلاً، إضافة إلى منافاة الفكرة لمنطق الأمور، فكيف لدولة خرجت من حرب أهلية منذ عدة سنوات وبموارد طبيعية محدودة وتحتاج إلى استثمار طويل، خاصة مع غياب كلّي للبنية التحتية الحديثة أن تصل عائداتها إلى مرحلة تمكّنها من الإقراض.
هذه المبالغة تكشف حالة الأسطرة التي اتّخذها عهد الحمدي بسبب عملية اغتياله إثر فترة حكم قصيرة، وهي فترة مستقرة ومزدهرة بفضل توقف الحرب وعائدات المغتربين، ثم انتهت بعملية اغتيال دنيئة في مؤامرة اشتركت فيها دولة مجاورة وقوى محلية غير محبوبة شعبياً.
الجار اللدود
من المعروف أن اغتيال الحمدي تآمرت فيه السعودية مع مشايخ قبليين اتّجه الرئيس الراحل لنزعهم الكثير من صلاحياتهم وقوتهم بعد تصاعد قوة المشايخ القبلية منذ الحرب الأهلية، ثم انسحاب الجيش المصري وتولي الرئيس القاضي الإرياني، ثم أحداث أغسطس/ آب 1968، رغم أن الحمدي خرج من رحم هذه القوى.
فعملية إزاحة الرئيس الإرياني فيما سمي انقلاباً أو حركة تصحيحية كانت تحالفاً بين الحمدي وهذه القوى المشيخية والسعودية، للتخلص من القاضي الإرياني وتعطيل الدستور، وكان قرار تأسيس المعاهد العلمية الذي صدر بداية عهد الحمدي أبرز نتائج هذا التحالف القصير. سرعان ما تخلص الحمدي من كل حلفائه الذين صعد الحكم بهم، ثم توترت العلاقات بينه وبين السعودية بعد توجهه جنوباً نحو خصوم السعودية الألدّاء، النظام الشيوعي في جنوب اليمن.
ظلّت السعودية في نظر اليمنيين خصمهم التقليدي، الدولة التي تمنع حضور دولة يمنية قوية في جنوبها. ارتبطت هذه الفرضية دوماً بمقولة شهيرة طالما ترددت بأن مؤسس الدولة السعودية الثالثة أوصى أبناءه باليمن قائلاً: “خيركم وشرّكم من اليمن”. بغض النظر عن مدى صحة هذه المقولة، لكن قناعة اليمنيين بأن السعودية عائق أمام تطور دولتهم أمر لا شك فيه، وهو يمتلك الكثير من الحيثيات الواقعية التي لا يمكن التشكيك فيها، فالسعودية في بداية تشكّل دولتها اصطدمت بالدولة اليمنية وخاضت حرباً بموجبها استولت على عسير وملحقاتها، ثم عارضت “الثورة الدستورية” في عام 1948، وأخيراً الثورة الجمهورية عام 1962، بعدها بدأت بدعم القوى القبلية وما صار يعرف بالقوى التقليدية، وآنذاك كان يطلق عليها القوى الرجعية وليس الثورية التقدمية.
تورّط السعودية المعروف بعملية اغتيال الحمدي رفعت الرجل إلى مستوى الأسطورة، وتم اعتباره بطلاً وطنياً، وفق منطق أن من يعادي السعودية أو تعاديه، هو رجل وطني. في الواقع هذا معيار ملتبس نسبياً، لأنه حصر تعريف “المصلحة الوطنية” بعداء دولة مجاورة، فإشكالية تعريف المصلحة بالعداء وليس بمعيار المصلحة الحقيقية يعدّ أمراً شديد السلبية، وهي عقدة تعاني منها دول كثيرة خاصة تلك المجاورة لدول كبيرة أو مؤثرة مثل العلاقة بين المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية، والعلاقة بين مصر والسودان وغيرها كثير.
جاء اغتيال الحمدي في أكتوبر/ تشرين الأول 1977 بعد اغتيالين لشخصيتين يمنيتين مؤثرتين وهما محمد أحمد النعمان الذي اغتيل في بيروت بعد وصول الحمدي للسلطة بأسبوعين، ثم تلاه في أبريل/ نيسان 1977، مقتل القاضي عبدالله الحجري بلندن، وكلاهما اتّهما بالتفريط بالأراضي اليمنية للسعودية بسبب تصريحاتهما بخصوص اعتبار اتفاق الطائف الحدودي مع السعودية نهائياً وبالتالي التخلي عن مطالب اليمن باستعادة عسير ونجران وجيزان.
هكذا نجد أن معيار العلاقة مع السعودية كان شديد الحساسية في تلك المرحلة، بسبب تحول اليمن إلى ساحة صراع بين قطبي الشيوعية والرأسمالية، وكانت السعودية رأس حربة الطرف المقاتل للشيوعية بالمنطقة.
أعتقد أن السردية اليمنية الوطنية التقليدية ضد السعودية، صارت تستدعي مراجعة أكثر من أي وقت مضى، فكل ما كانوا يتعاملون معه كمطلقات في علاقتهم مع هذه الدولة المجاورة، والكبيرة (مقارنة باليمن والدول المجاورة لها) تعرض لهزات كبيرة، آخرها الحرب الأخيرة، حيث لجأت للسعودية ضدّ الحوثي شخصيات معروفة بعدائها للسعودية، بل وقوى تقدمية وربما ثورية. سبقتهم في ذلك أسرة حميد الدين، الذين قاتلوا السعودية في الثلاثينات ثم لجأوا لها مرتين عام 1948 ثم 1962، ثم قيادات اشتراكية قضت عمرها في معاداة النظام السعودي “الرجعي” ثم لجأت لها عام 1994. وبالمثل فعل الرئيس السابق صالح الذي كان بين الوقت والآخر يهاجم السعودية خاصة بداية التسعينيات بسبب حرب الخليج، ثم حرب 94 والتوتر الحدودي بينهما، ثم لجأ لها في آخر عهده للعلاج، وبعد أن اتهمها بمقتل الحمدي، في بداية تدخلها العسكري عام 2015، انتهى به الحال بآخر خطاب يدعو إلى الحوار معها.
ارتبط مفهوم تحديث الدولة في منطقتنا بالاستعمار، الذي بدأ عملية التحديث، مثل إدخال منظومة التعليم الحديثة أو بناء شبكة المواصلات الحديثة، وفي حالة شمال اليمن ودول عربية أخرى، ارتبطت محاولات التحديث برغبة السلطة في تقوية قدراتها وإمكاناتها
ربما يحتاج اليمنيون إلى التساؤل، لماذا تستمر الصراعات فيما بينهم حتى أصبحت السعودية ملجأً لكثيرين من أشد خصومها؟ ويتساءلون أيضاً حول مدى دقة فرضياتهم على أراضي عسير وملحقاتها، فهل يا ترى ما يزال أهالي تلك المناطق ينظرون إلى أنفسهم كيمنيين ويحلمون أن يكونوا جزءاً من الدولة اليمنية؟ أم يفضلون بقاءهم ضمن الدولة السعودية؟ خاصة مع تغلغل الوهابية في تلك المناطق منذ الدولة السعودية الأولى أي قبل قرنين، إضافة إلى أنهم بهذا يفضلون الانضمام إلى كيان سياسي مضطرب وفقير على آخر يظل بكل علاته أفضل حالاً.
النموذج الناصري للحكم
اقترب الحزب الناصري من إبراهيم الحمدي واعتبره عضواً في الحزب، بغض النظر عن مدى دقة المعلومة، فالحمدي كان يقدم نموذج حكم مشابه كثيراً لعبدالناصر سواء في تخلّصه السريع من حلفائه الذين ساهموا في صعوده للسلطة، أو بالتعامل الشعبوي الذي لا يخلو من جاذبية ونجاح مع الجماهير. فكلاهما يقدم نموذج القائد العسكري الجماهيري، وتأسيس دولة يلعب فيها الجيش دوراً محورياً.
مع فارق حجم الدولتين والزمنين، فعبدالناصر جاء في ذروة مرحلة التحرر الوطني بينما صعد الحمدي بعد أفولها بينما الحرب الباردة مستعرة والقوتان العالميتان تتنازعان النفوذ والحضور على مختلف الدول. هذا لا يمنع أن الحمدي كان امتداداً لنموذج الاستقلال الوطني ومواجهة القوى الخارجية المعادية، في زمن غذّيت فيه الأحلام الوطنية حتى وصلت للسماء، لكنها سقطت أرضاً بهزيمة ثقيلة لعبدالناصر في عام 1967، واغتيال سريع لإبراهيم الحمدي.
كما اتفق كلاهما في تعزيز القبضة الأمنية للدولة، وهذا طبيعي في زمن القائد الجماهيري في تلك المرحلة، فكما بدأت في عهد ناصر ممارسات الدولة البوليسية من تعذيب وإخفاء قسري تتكرس وتزدهر، بدأ أيضاً في عهد الحمدي السجن السياسي في اليمن يتّخذ سمعته السيئة، ويتبني بشكل ممنهج التعذيب والإخفاء القسري إثر تعيين محمد خميس على رأس جهاز الأمن الوطني عام 1975.
حلم الدولة الحديثة
كان الحمدي يمثل لكثيرين مشروع الدولة اليمنية الحديثة والقوية الذي تعثّر فيما بعد، فلطالما اعتبر اليمنيون النفوذ السعودي والمشايخ القبليين عائقين أساسيين أمام تطور الدولة اليمنية الحديثة. هذا صحيح نسبياً، لكنه يتجاهل عوامل كثيرة تشكل عوائق لهذا التطور مثل صعوبة التنمية في بلد مشتت سكانياً وجغرافيته معقدة مثل اليمن، وموارده الطبيعية تحتاج استثماراً طويلاً في بنيته التحتية، إضافة إلى الإرث التاريخي والاجتماعي الثقيل، والذي لا يمكن القفز عليهما بسهولة مثل ما حدث في حالة الحمدي، بل هي عملية تدريجية شاملة تتطلب تغيرات تنموية واقتصادية وحضور للدولة بالخدمات والمشاريع الاقتصادية وليس فقط بالسلاح والقوة.
عموماً، ارتبط مفهوم تحديث الدولة في منطقتنا بالاستعمار، الذي بدأ عملية التحديث، مثل إدخال منظومة التعليم الحديثة أو بناء شبكة المواصلات الحديثة. في حالة شمال اليمن ودول عربية أخرى، ارتبطت محاولات التحديث برغبة السلطة في تقوية قدراتها وإمكاناتها، فأول ما بدأ الإمام التفكير ببعثات لخارج اليمن، أرسل بعثه عسكرية للعراق عام 1936، وقبل التفكير بسفلتة أي طريق في اليمن، حاول الإمام إدخال الطائرات للجيش بداية ثلاثينات القرن الماضي.
تحديث ارتبط منذ البداية برغبة السلطة في الاستفادة من إمكانيات التكنولوجيا الحديثة في الجيش والأمن بشكل يعطي الدولة تفوقاً غير مسبوق، ويزيد من سلطويتها ونفوذها على حساب القوى المجتمعية التقليدية والتي كانت تعرفها المجتمعات سابقاً، أبرزها كان القبائل، لكن أيضاً كان للمجتمع أشكال أخرى غير الأسر الممتدة والقبائل، مثل القوى المهنية كتجمعات الحرفيين والتجار، ونشاطات مجتمعية كانت ذات أهمية خاصة مثل الأوقاف.
تقويض كامل المنظومة القديمة لصالح دولة حديثة أمر يستدعي الكثير من العنف، لو لم تمتلك هذه الدولة إمكانات مادية هائلة تستطيع من خلالها شراء الولاءات وتحييد هذه القوى وتقديم خدمات كثيرة تسد احتياجات المجتمع، عوضاً عن منظومتهم التقليدية التي كانت تعتمد بشكل كبير على معايير وقيم مختلفة تماماً، ما قد يسرّع من عملية التحديث، وربط هذا المجتمع بالدولة وتفكيك منظومته التقليدية، مثل القبائل، كما حدث في حالة القبائل البدوية مع الدولة السعودية.
شهدت اليمن تجربة عنيفة في تقويض المنظومة التقليدية في عهد الرئيس سالمين في الجنوب (1969-1978) من خلال نفي واعتقال وربما قتل مشايخ قبليين اتُّهموا بالرجعية والتآمر. ترافق هذا مع دولة وسعت كثيراً في نطاق خدماتها وصار مستوى الأمية قريباً من الصفر في معظم مناطقها.
عملية إضعاف المجتمع لصالح تكريس سلطة الدولة حتى وإن طبقت بشكل صارم القانون والعدالة لم تنجح في توفير السلم والاستقرار للدولة، بل بالعكس، كان تقويض القوى التقليدية لصالح سلطة ودولة حديثة النشأة أدت لنتائج عسكية أبرزها أن صراعات السلطة صارت أكثر دموية، لأن القبائل كانت تنجح بوسائلها التقليدية في التدخل والتوسط أو على الأقل عاداتها وتقاليدها كانت ستقلل من حجم المجازر.
يسير التاريخ في مسار طبيعي شديد المنطقية لا يحتمل أي أسئلة افتراضية، لو تمعّنّا فيها بواقعية لوجدنا أنها غير ممكنة. فكان من غير الممكن للسعودية التي كانت في ذروة قوتها في السبعينيات أن تحتمل وجود خصم لها بالشمال لا يقوم بدوره في صدّ الخصم الشيوعي بالجنوب
في عام 1986، عند المجزرة الكبرى التي حدثت في الجنوب انكشفت عورة المناطقية كبديل للقبلية في مجتمع لم يتخلَّ تماماً عن عصبياته ولو نجح بإخفائها وراء شعارات أيديولوجية كثيفة.
المسألة تتعدى مجرد صدام مع قوى المجتمع التقليدية لعملية تحديث شاملة، ونسيان متطلباتها التنموية بدون وعي بمخاطر سلطوية منظومة الدول الحديثة. أكثرها قسوة حالياً نموذج كوريا الشمالية، نموذج لدولة ذات بنية صناعية حديثة ومتطورة تستخدم كل قدراتها في وسائل الإعلام والمواصلات والأسلحة لتقويض أي حضور للمجتمع مقابل تعزيز كبير لسلطة دولة يتحكم بها فرد.
في الواقع تحويل المجتمع من منظومة تقليدية تشكّلت ودامت عبر آلاف السنوات نحو طور مختلف لا يمكنها أن تكون إلا تدريجية، أما الطريق الراديكالي فهو عادة دموي وغير مضمون الاستمرار، بل احتمال انقلاب العواقب فيه كبير جداً.
ماذا لو؟
كثير من السرديات السياسية اليمنية تبدأ بفرضية، ماذا لو؟ بالطبع سؤال افتراضي كهذا من الطبيعي أن يتحمل فوق ما يحتمل. أشهر هذه الفرضيات، ماذا لو لم يدعم المصريون ثورة 1962؟ وماذا لو لم يحدث انقلاب 5 نوفمبر؟ وماذا لو لم يغتَل الحمدي؟ وماذا لو لم تتم الوحدة عام 1990؟ عادة فرضية “ماذا لو” يتبناها من يفترض أن الأحداث كانت ستسير في اتجاهات أفضل لو لم يحدث كذا.
في الواقع يسير التاريخ في مسار طبيعي شديد المنطقية لا يحتمل أي أسئلة افتراضية، لو تمعّنّا فيها بواقعية لوجدنا أنها غير ممكنة. فكان من غير الممكن للسعودية التي كانت في ذروة قوتها في السبعينيات أن تحتمل وجود خصم لها بالشمال لا يقوم بدوره في صدّ الخصم الشيوعي بالجنوب، ولم يكن من المتوقع أن تسكت المشايخ القبلية على تجريدها من نفوذها في وقت كانت ما تزال في ذروة تمكنها بعد حرب أهلية طويلة لعبت فيها القبائل أدواراً أساسية في تغيير مساراتها.
الجموح والصعود السريع في بلد معقد كاليمن لو لم يترافق مع قدر كبير من الواقعية تعذر استمراره، لذا كانت كل المسارات تتجه إلى وقف سريع ونهائي لتجربة الحمدي.
لو تجردنا من البعد الأسطوري من مرحلة إبراهيم الحمدي، لاستطعنا تقييمها بشكل أفضل، خاصة لو قرأناها ضمن سياقها الزمني بواقعية، فهي تجربة غنية بالتساؤلات والقضايا المثيرة بالذات في قضايا تتعلق بالسعودية وعلاقة الدولة بالمشايخ، ولأي درجة تستطيع القيادة الفردية الوطنية الجماهيرية النجاح أو الفشل أو ربما التحول نحو ديكتاتورية مفزعة.